حق الملكية كما حق الحياة وحق الحرية، مقدسات حفظها الدستور، إلّا أن الحرب انتهكتها، ومع مرور السنوات الطويلة وتفنّن تجّار الحرب في أساليب «مص دم» المواطن، وصلت عمليات سرقاتهم إلى العقارات والأملاك، التي غالبا كانت «شقى عمر» البعض…

الدعاوى في المحاكم بأعداد ضخمة جداً… «بيوع مزورة، تشليح، وضع يد»، اختلفت المسميّات والضحية في النهاية فقدت ما تملك.

خلال الحرب وسنواتها الطويلة اضطر كثير من ملاّك البيوت للسفر و كان من الصعب عليهم في كثير من الأحيان الوصول إلى بيوتهم ما جعلها عرضة للسرقة الممنهَجة.

غياب القانون ولّد الفكرة

بدأت فكرة سرقة العقارات من المناطق التي سيطر عليها الإرهابيون لفترة ما، أو حتى التي عمّت فيها الفوضى «خاصة في السنين الأولى للأزمة»، بداية بدأت بما يسمى وضع اليد على عقار، نتيجة خلوّه من سكانه، وغياب القانون عن المنطقة، ومن ثم بدأ السكان الجدد بالتفكير جدياً بكيفية الحصول على ملكية هذا العقار، فبدأت أساليب النصب المختلفة وعلى رأسها كانت عقود البيع المزورة.

ويوضّح ذلك، القاضي رياض قواص المستشار في محكمة النقض، في لقاء مع « الأيام»: الأزمة أفرزت هذا النوع من الخلافات بالنظر لغياب القانون في بعض المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون، ما خلق الفوضى فيها.

إضافة إلى مغادرة أبناء بعض البلدات والمدن سورية، أو إلى المناطق الأكثر أمنا داخلها، هنا ظهرت طبقة من ذوي النفوس الضعيفة، خاصة بعد أن أصبحت الفوضى في بعض المناطق تربة مناسبة لعمليات النصب في ظل غياب القانون فيها.

فبحثوا عن العقارات كـ «الأراضي والشقق» التي هجرها أصحابها واستطاعوا الحصول على وثائق مزوّرة ابتداء من قيد النفوس «إخراج القيد»، والوكالات، وبيان القيد العقاري، وصولاً إلى الهويات المزورة، وعلى أساس هذه الوثائق المزورة يقومون بتنظيم عقود بيع أو عقود عن طريق كاتب العدل. وبعد أن يكونوا قد تأكدوا من ملكية من انتحلوا صفته في قيود السجل العقاري، تُنظّم وكالة باسم المالك أو عن المالك، وعلى أساسها يقوم بعملية البيع بصفته المالك نفسه.

وهنا جاء الخلل من ضعف الرقابة على السجل العقاري، والسجل المدني، وإصدار الوثائق التي نوّهنا عنها دون التحري جيداً عن أصحابها.

البيع الأول للعقار يعتبر باطلا، ويتمّ فورا إعادة البيت لأصحابه بعد اللجوء إلى القضاء، أما الشاري الثالث فيشترط، حتى تكون ملكيته للعقار نظامية، ألّا يكون على علم بعملية النصب، أو ألّا تكون نيته سيئة عند شراء العقار.

وعندما لا يستطع المالك الأول إثبات تورّط المالك الجديد وسوء نيته، يخسر بيته ويحصل على تعويض من البائع الأول الذي زوّر العقد والأوراق، إلّا أنه وفي أكثر الحالات يقوم هؤلاء الأشخاص بعدة عمليات نصب من هذا القبيل ثم يهربون خارج البلاد.

آلية ممنهجة للسرقة

وفي السياق نفسه يوضّح المحامي تمّام حسن من حمص لـ «لأيام»، خاصة فيما يتعلق بالوضع في مدينته: «الناس في فترة من الفترات خاصةً في بدايات الأزمة اعتقدت أن القانون غير موجود وأن حق الناس بات ضائعاً، حيث انتشرت إشاعات أن الوثائق الرسمية للملكيات وقيود النفوس تُلِفَت، إلا أنه تبين فيما بعد أن هذا غير صحيح على الإطلاق، وأن الدولة استطاعت الحفاظ على جميع الوثائق والأوراق الثبوتية للمواطنين، وأن صاحب كل حق سيرجع له حقه بالشكل القانوني ،فأي مواطن يلاحق حقه سيحصل عليه، القانون أنصف الكثير ممن رفعوا دعاوى لاستعادة عقاراتهم المسلوبة».

وأشار إلى أن المشكلة تصبح أكثر تعقيداً، عندما يحدث أكثر من بيع، بهدف إخفاء الجرم، حيث يصبح الموضوع أكثر إرباكاً، لكن لا يضيع الحق على الإطلاق، فإما أن يحصل صاحب البيت الحقيقي على بيته أو على تعويض مناسب.

ويؤكد حسن أن هناك آلية كاملة للتزوير؛ الحصول على وكالة، واستخراج بيان قيد عقاري، وتزوير عقود بيع، كل ذلك أصبح شبكة متكاملة ويتم العمل عليه بشكل ممنهج ومؤطّر.

تصل الوثائق لكاتب العدل كاملة وبصورة «قانونية»، فهو غالبا ليس له علاقة بالتزوير، وليست مهمته اكتشاف الهويات المزورة أو بيانات القيد المزورة.

في ليلة وضحاها عقارك ليس لك!

أن تشتري عقاراً في منطقة من مناطق العشوائيات، يعني أن يصيغ لك سمسار ما، عقد بيع بين البائع والشاري، تحتفظ به كوثيقة شبه رسمية، لكن لابد لك أن تعلم أن عقارك بلا رقم، ورقمه المفقود سيجعلك ضحية سهلة للسرقة دون أن تستطيع تحريك ساكن.

مرّت السنوات والمدعو «ح. ع» يسكن بيته الذي استأجره من «س. ر» حتى أصبح مألوفاً لدى الحي والجيران، وبدأ بين الحين والآخر بتمرير الكلام أنه ينوي شراء البيت أو أنه اشتراه، وهنا باتت المهمّة سهلة، فقد توجّه إلى أحد السماسرة الكثر ممن يعملون في هذا المجال لصياغة عقد بيع مزيف للبيت، وطبعا التسعيرة ثابتة 50 ألف ليرة سورية فقط، ومن ثم تدبر أنت الأمر. بموجب العقد حصل المستأجر على عداد للكهرباء والماء، بحجة أن من اشترى منه البيت كان يسرق الكهرباء والماء وليس لديه عدادات نظامية، طبعا قام بذلك بعد أن قطع العدّادات عن المنزل وأبعدها عنه.

حصل «ح. ع» أخيراً على عداداته «النظامية» وأصبح البيت ملكه قانوناً.

بعملية بسيطة سُرق البيت من صاحبه الحقيقي، والذي بعد اكتشافه الأمر لم يترك وسيلة إلّا وقام بها، إلّا أن الحكاية انتهت بخيبة مالك العقار وقلّة حيلته!

القاضي رياض قواص أشار إلى أنه وبالنسبة للعشوائيات الوضع مختلف، فالملكية هنا للدولة ولا ملكية لأحد فيها، ولا إثبات لملكية عقار إلّا من خلال عدادات الكهرباء والماء وهذه قابلة للتغيير والتبديل في أي وقت، إلّا أن الدعاوي في مناطق المخالفات أقلّ من الدعاوي في المناطق النظامية، وذلك لأنه في العشوائيات لا قانون يحكم الملكيّات، لذا من الصعب الحكم في استعادة عقار مسلوب، وهنا تكثر الفوضى وأساليب فرض القوة بدلاً من اللجوء للقانون.

وهنا يقول المحامي تمّام حسن إنه كلما ازدادت العشوائيات زادت فرص التزوير ووضع اليد على البيوت.

مضيفاً: كثُرت المناطق العشوائية في المحافظات وباتت أكبر من بعض المدن، ففي كل حارة هناك حارة رديفة عشوائية. قبل الأزمة كانوا يقدّمون رخص مؤقتة للبيع والشراء، إلّا أن هناك، وإضافة إلى ذلك، بيوت بنيت «تهريب» مخالِفة لا رخصة لها، والبيوع المزورة حدَثت في العشوائيات أكثر بكثير من المناطق التي لديها قيود ملكيّة نظامية «طابو أخضر»، نظراً لقلّة وثائق الملكية فيها، إلّا في حالات السفر الطويل أو الغياب عن البيت لفترات طويلة لأسباب مختلفة.

تحرير أي منطقة يُظهر عقاراتها المسروقة

بعد تحرير أي منطقة تبدأ العقود المزورة بالظهور إلى العلن، ويبدأ أصحاب البيوت الحقيقيين، بمتابعة حقّهم في استرجاع منازلهم التي قد تكون عُرضة للسرقة، إما من خلال عقد مزوَّر أو حتى وضع اليد.

ويؤكد المستشار أن عمليات الاحتيال وسرقة العقارات بهذه الطرق، قبل الأزمة التي تعيشها سورية اليوم، كانت نادرة أو حتى لم تكن تمرّ على المحكمة، أما اليوم فهذه الدعاوي كثيرة جداً، وتحرير أي منطقة جديدة يعني أننا على موعد مع دفعة جديدة من الدعاوي المتعلقة بالبيوع المزورة والاحتيالية، فخلال سيطرة الإرهابيين على تلك المناطق يكون تجّار الحرب فعلوا ما فعلوه.

إجراءات مجدية

وبالنسبة للإجراءات التي تقوم بها الجهات المعنية للحدّ من هذه السرقات يوضح قواص: الإيجابي أن الإجراءات التي اتخذتها الدولة للتدقيق على الوكالات كان لها دور ووقع عمليّ ممتاز في البحث عن الأصول، إضافة إلى أن الموافقات الأمنية أيضا قلّلت من عمليات النصب وسرقة العقارات.

إلى جانب موضوع الرقابة والتعليمات والتعاميم لكتّاب العدل، من الوزارة والتي تطالبهم بالتدقيق في الوكالات، وتعميم وزير العدل للمحاكم أيضاً للتحري والتدقيق والتثبّت من صحة البيع، وأنه صادر عن مُلّاك العقارات الحقيقيين.

وفي السياق يقول المحامي تمّام حسن: هناك متابعة من كل الجهات حالياً وهذا أمر ايجابي جداً، خاصة موضوع العمل على طرد غاصب لبيت، إلّا أن الموضوع بحاجة لقانون جديد، أو بلاغ وزاري بالتنسيق بين الوزارات المعنية، موضحاً: حالياً يستطيع مالك البيت أن يتقدّم إلى المحافظة بوثائق تُثبِت ملكيته للبيت وطرد من وضع يده على ذلك البيت، خلال 10 أيام من معرفته بأن أحدهم اغتصب بيته، ومُدّدت إلى عدة شهور مؤخراً، مشيراً إلى أنه من المفروض اليوم، ونظراً للظروف التي نعيشها، أن تعمل السلطة التنفيذية على حلّ مثل هذه القضايا فوراً، وفي أي وقت، دون تحديد مدة، فمن الممكن أن يكون المالك خائفاً أو مهدداً، ولا يتقدم بطلب في وقتٍ سريع، أي يجب وبمجرد أن يتقدم المالك بإثبات ما لملكيته أن يتحول إلى قسم الشرطة ليكون التنفيذ فورياً، لأنه عندما يلجأ إلى القضاء ستبدأ الدعاوى والتي قد تستغرق سنوات في المحاكم.

وهنا يجب أن يطبق قانون طرد الغاصب عن طريق السلطة التنفيذية فوراً، فالإجراءات السريعة تخفّف من احتمال حدوث بيوع أخرى، ما يزيد الأمر تعقيداً إلى جانب وجود حالات توفي فيها الشاري الأول المزيّف، وهنا يدخل المالك الأصلي في متاهات الإرث وغيرها ما يستغرق وقتاً طويلاً قبل أن يحصل على حقه.

حقٌ كفله الدستور

حق الملكية مثل حق الحرية والحياة، يكفلهم الدستور، والدستور يجب أن يكون القوة العليا لحفظ الحقوق، لذا يجب الاعتماد على أسرع سلطة لتنفيذ القانون، والقضاء معذور لأنه يأخذ وقتاً طويلاً نظراً للإجراءات المختلفة فيه، هذا ما أوضحه حسن مضيفاً: وعندما يكون التنفيذ سريعا سيعطي ذلك المواطنين ثقةً بالدولة، وبالتالي ستخفّ حالات سرقة العقارات والبيوع المزوّرة، وما يحدث الآن حالة غير صحية، لأن رجوع المواطنين إلى بيوتهم له الأولوية حالياً خلال الأزمة، ويجب أن يلقى هذا الموضوع الاهتمام الأول.

فعند تحرير منطقة ما تبدأ الجهات المعنية بدعوة المواطنين للعودة إليها وتبدأ تلك الجهات بالعمل على إعادة الخدمات، إلا أن الموضوع الأهم هنا هو حفظ حق أهالي تلك المناطق لملكياتهم وإعادتهم إلى منازلهم فوراً.

اقتراح

اقترح المحامي تمّام حسن إحداث محكمة خاصة «محكمة استثنائية» مستعجلة، لمعالجة هذا النوع من التزوير بحيث يتقدم المالك بالوثائق، فيتم إعادته إلى بيته فوراً، ومن ثم تبدأ الإجراءات القضائية.

سرقة

سرقة العقارات سلسلة من حلقات لا تنتهي، تبدأ من مناطق العشوائيات لتنتهي في المناطق الراقية ومُثبتة الملكية، فأي عقار غَفل عنه أصحابه، بات فريسة سهلة تنتظر من يفترسها، وعلى الرغم من كل الإجراءات التي قامت بها الجهات المعنية في محاولة للحد منها، إلا أنها لاتزال موجودة وبكثرة، خاصة وأن النصوص الجزائية غير كافية لتشكّل حالة ردع لمن امتهنوا هذه الحرفة، لأن هذه الأفعال بطبيعتها جنحوية (أي الحد الأعلى للعقوبة سجن مدة عام واحد فقط).




إقرأ أيضا أخبار ذات صلة